
بقلم: د. يحيى آل داوود
بعد أربع سنوات من العمل ملحقًا ثقافيًا في سلطنة عُمان الشقيقة، تحت مظلة سفارة المملكة العربية السعودية، أجدني وأنا أغادر هذه الأرض الطيبة محمّلًا بتجربة إنسانية ومهنية ثرية، تتجاوز حدود الوظيفة الرسمية إلى فضاء أوسع من التفاعل الثقافي، والتواصل المجتمعي، وبناء العلاقات الأخوية التي يصعب اختصارها في كلمات.
لقد مثّل لي العمل الدبلوماسي ( التعليمي والثقافي ) في سلطنة عُمان مسؤولية وطنية وأمانة مهنية . حيث ارتبط عملنا بشكل مباشر مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، ووزارة الثقافة والرياضة والشباب، إلى جانب مؤسسات التعليم العالي من جامعات وكليات ومعاهد. وكان هذا التعاون نموذجًا إيجابيًا للتكامل المؤسسي والعمل المشترك، القائم على الاحترام المتبادل، والحرص على جودة التعليم، وخدمة الطالب، وتعزيز البحث العلمي، وتمكين الشباب.
وخلال هذه السنوات، كان محور الاهتمام هو خدمة طلاب وطالبات المملكة العربية السعودية الدارسين في مؤسسات التعليم العالي العُمانية، الذين قدّموا صورة مشرّفة للشباب السعودي، بما اتسموا به من جدية والتزام، وحضور علمي وأخلاقي يعكس قيم الوطن، ويجسد تطلعاته نحو التميّز والمعرفة والانفتاح الواعي.
كما أتاح العمل الثقافي فرصة واسعة للمشاركة في المحافل العلمية، والندوات الفكرية، والأمسيات الثقافية، والفعاليات الاجتماعية والوطنية، التي تعكس ثراء المشهد الثقافي العُماني، وعمقه الحضاري، وتنوّعه، وانفتاحه على الحوار والتبادل المعرفي. وقد أسهمت هذه المشاركات في تعزيز التواصل بين النخب الأكاديمية والثقافية في البلدين، وبناء جسور من الفهم المشترك والتقارب الإنساني.
ومن ضمن مهام الملحقية الثقافية، كان التعريف بتاريخ وثقافة المملكة العربية السعودية، وإبراز ما تشهده من تحولات تنموية كبرى ونهضة شاملة في مختلف المجالات، في ظل قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود – حفظه الله – وسمو ولي عهده الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز – حفظه الله – وهي نهضة تقوم على الاستثمار في الإنسان، وتعزيز الهوية الوطنية، والانفتاح الثقافي، وبناء مستقبل مستدام.
وقد لمسنا اهتمامًا وتفاعلًا لافتين من الأشقاء في سلطنة عُمان بكل ما يتصل بالمملكة، وتقديرًا صادقًا للعلاقات التاريخية التي تجمع البلدين، وهي علاقات لم تكن يومًا وليدة ظرفٍ سياسي أو تعاونٍ مرحلي، بل امتدادًا طبيعيًا لروابط الأخوّة، والجوار، والتاريخ المشترك، والتكامل الاجتماعي والثقافي.
وعلى المستوى الإنساني، كانت التجربة العُمانية غنيةً بما تحمله من قيم التعايش، والاعتدال، والاتزان، واحترام التنوع. فقد أتاح لي العمل والتنقل في مختلف ولايات السلطنة، من جبال مسندم في أقصى الشمال، إلى قمم جبل سمحان في الجنوب، فرصة الاحتكاك المباشر بالمجتمع العُماني بكل أطيافه، واكتشاف جمال وروعة الإنسانٍ العماني البسيط في تعامله، العميق في ثقافته، الكريم في أخلاقه، المعتز بهويته، والمنفتح على الآخر.
ولعل من أبرز ما تعلّمته من التجربة العُمانية أن التنمية ليست سباقًا محمومًا، بل مسارًا متزنًا، وأن الثقافة ليست ترفًا، بل عنصرًا أساسيًا في بناء الوعي المجتمعي، وأن التعايش الحقيقي يُصنع بالممارسة اليومية، لا بالشعارات.
ولا يمكن الحديث عن هذه التجربة دون توجيه الشكر لمقام وزارة التعليم على الدعم اللامحدود التي حضيت به الملحقية الثقافية، والتقدير بكل معانيه لكل من أسهم في إنجاح برامج الملحقية الثقافية، من مسؤولين، وأكاديميين، ومثقفين، وإعلاميين، وزملاء عمل، وطلبة ، ممن كان لتعاونهم ودعمهم الأثر البالغ في تحقيق الأهداف المرجوة، وفي جعل سنوات العمل في سلطنة عُمان تجربة ناجحة ومثمرة.
كما يظل لسفارة المملكة العربية السعودية في سلطنة عُمان دور محوري في دعم العمل الثقافي، وتوفير بيئة مؤسسية راقية، تسهم في تعزيز صورة المملكة، وترسيخ علاقاتها الأخوية مع الأشقاء في السلطنة.
إن مغادرة الموقع الوظيفي لا تعني نهاية العلاقة مع المكان، ولا انقطاع التواصل مع أهله، فالعلاقات الإنسانية الصادقة لا يحكمها إطار إداري، ولا تنتهي بانتهاء التكليف. وستبقى حاضرة في الذاكرة سلطنة عُمان، بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله وشعب عمان ، ومحل تقدير واعتزاز، وشريكًا ثقافيًا وإنسانيًا تتواصل معه جسور المحبة والتعاون.
قبل الختام ، فإن التجربة العُمانية لم تكن محطة عمل فحسب، بل مدرسة في التوازن، ومنصة للتعارف، وجسرًا للتواصل بين شعبين شقيقين تجمعهما أواصر التاريخ، ووحدة المصير، والرؤية المشتركة لمستقبلٍ عربي قائم على المعرفة، والاحترام، والتكامل .
الختام:
عندما يأسرك جمال المكان ..
وطيب الإنسان ..
فاعلم أنك في عُمان


